إن جل ما أراده رولز من فرضيته المتخيلة للعدالة، والمستندة إلى الوضع الأصلي وستار الجهل ثم تجسيد هذه العدالة في الدستور أو التشريع الأساسي لرابطة بشرية ذات تنظيم جيد، ما هو إلا عملية خلق ظروف افتراضية لإنشاء وسط ومناخ حيادي يحياه أناس حياديون ذوو مواصفات خاصة لوضع أحكام حيادية لهم تحدد وجه العدالة الذي يتصورونه فيما بينهم. وبهذا التبسيط لنظرية رولز، يمكننا القول أن فرضيته هذه تشكل قمة ما وصلت إليه العقلانية في وضع أسس العدالة التي تناسب البشر، ورغم كافة الآراء التي انتقدت النظرية إلا أنها تبقى حتى الآن النظرية الوضعية الأقوى حجة والأقدر على الإجابة على كثير أسئلة أعيت ما قبلها من نظريات، خاصة بعد ما قدمه رولز نفسه من تعديلات وتوضيحات لنظريته بعدما انتشرت ورد عليها الناس.
لكن من وجهة نظر إسلامية، تستند إلى الإيمان والعقل معاً، لا أرى فيما يفعله رولز إلا محاولة معقدة (وهي مبررة) من وجهة نظري لعقلنة العدالة التي جاء بها الإسلام، فالعدالة في الإسلام تستند في أسسها ومبادئها الكبرى إلى الشارع سبحانه، وما أنزله تعالى من أحكام ومبادئ تشرح للناس في نصوص إلهية عامة ما ينفعهم وما يضرهم وما يصلحهم وما يفسدهم، وتؤصل لهم منهج العدل ليتخذوه إماماً وتنهاهم عن طريق الظلم سواء لأنفسهم أو فيما بينهم ويتوعدهم إن هم ساروا فيه، حيث قال تعالى: )إنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيراً ( 58 النساء. كما وجاء في الحديث الشريف ((عن أبي ذر الغفاري t، عن النبي e فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا …. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه” أخرجه مسلم)).
فالوضع الأصلي للعدالة الذي شرحه رولز، هو وضع افتراضي لبيئة خاصة بدائية من الثقافة، في حين أن الوضع الأصلي للعدالة التي فرضها الله هو الحياة الواقعية المعاشة لسائر الناس في سائر الأزمان والأماكن بكل ما تحويه من واقع وتفاصيل، فشتان بين تصور متوهم وبين واقع معاش، سواء من حيث القدرة على الإحاطة بكل حاجات ومتطلبات ومنافع الناس التي تستدعي تحقق العدالة فيها، أم من حيث بلوغ الحقيقة التي افترضها رولز انها ملازمة للعدالة في نظريته، لكن افتراض رولز هذا يتناسب مع عقلانيته التي لا تستند إلى أي قدر من البعد الإيماني الذي يمنحنا إياه الإسلام، والشاهد ان العدالة المتصورة لبيئة متخيلة حتى لو استندت إلى العقلانية لا تناسب منطقياً ولا حتى واقعياً (كما يقول بذلك أيضاً رونالد دوركن) إلا واقع متخيلاً لا حقيقياً معاشاً وهي بذلك غير موجودة.
وستار الجهل المفترض أنه يلف المشرعين من واضعي العدالة من حيث مواصفات ومميزات محددة خاصة بهم، يقابله في الإسلام حقيقة العلم المطلق للمشرع الأعظم سبحانه بسائر الأحوال والأعمال والخصائص والصفات، فشتان آخر بين من يبني على ستار من الجهل بذاته وصفاته، ومن يبني على رواسخ العلم واليقين المطلقين بذاته وصفاته قبل احوال من يشرع لهم وصفاتهم.
كما ان الناس المشرعين الذين اختارهم رولز وافترض لهم جو الحيادية الذي سيصلون اليها نتيجة جهلهم بذواتهم وفق ما حدده، تماماً مثلما افترض فيهم الحرية والعقلانية والإدراك، يقابلون في العدالة الإسلامية الشارع سبحانه وتعالى الرحمن بعباده الرحيم بسائر البشر والحريص على صالحهم والعليم بهم علماً مطلقاً متحققاً، فأنى لبشر متوهمين يفترضهم عقل رولز نفسه القاصر كسائر عقول البشر بعلمه ومقدراته مهما بلغ من شأن، أن تشرع خير وعدالة تقارن بما يمكن ان يشرعه خالق البشر الخبير بهم وبطبائعهم وصفاتهم العليم بخيرهم والحريص على نفعهم وهدايتهم من دون حيادية متوهمة بل بحرص الأم الرءوم برضيعها وبسواسية أسنان المشط بين عياله.
وأخيراً الدستور والتشريع الأساسي الذي ستتحد به العدالة وفق رولز، يقابل الدستور الإلهي المتمثل في القران الكريم الذي ضمنه الله منافع البشر كافة الأساسية منها والكمالية (وهي التي بنى عليها رولز عدالته التوزيعية)، في وصفة متقنة خبيرة بالبشر وما يصلحهم في واقعهم المعاش لا في افتراض متوهم ولكل زمان ومكان.
الناشر : //
تعليقات
إرسال تعليق